نشرت القدس العربي في عدد 16/6/2007، مقالا للكاتب المغربي الدكتور محمد الوادي، تحت عنوان إعادة كتابة تاريخ المغرب من منظور يهودي ، وعلق علي أدعاء الكاتب المغربي اليهودي حاييم الزعفراني بأن يهود المغرب لم يأتوا مهاجرين وإنما هم مغاربة تهودوا ، فقال الوادي: معني هذا أن اليهود هم أصحاب حق في البلاد المغربية، ولا بد من إعادة كتابة تاريخ المغرب من منظور يهودي.

وأنا أكتب في هذا الميدان بلا عقدة لأنني من الذين يقال عنهم أمازيغ ـ بربر.
فقد أصدرت المحامية اليهودية الفرنسية من أصل تونسي جيزيل حليمي سنة 2006 رواية عنوانها (الكاهنية) طبعتها الدار الفرنسية المشهورة Plon زعمت أن الكاهنة يهودية، وهو كذب وافتراء، ويبدو أن يهودية حليمي تغلبت علي تقدمية حليمي فأبرزت الكاهنة كيهودية، بينما يجمع المؤرخون العرب المسلمون الذين أرخوا لها بمن فيهم العلامة ابن خلدون علي أنها كانت وثنية تعبد صنما من خشب، وتنقله علي جمل، وقبل كل معركة تبخّره وترقص حوله، ولو كانت يهودية لروي عنها ذلك الرواة المسلمون علي أنها من أهل الكتاب. كما أن حليمي تردد أكاذيب المستشرقين الفرنسيين الزاعمين بأنها كانت عاشقة لخالد العبسي، بينما يجمع المؤرخون علي أنها عاملته كإبنها بل وتبنته، فهو شاب وهي معمرة عمرها 127 سنة. وحليمي تعكس النظرية الصهيونية، فقد قامت إسرائيل بنحت تمثال للكاهنة قبل سنوات، أثناء المد للنزعة البربرية، واتصلت بعناصر البيربريست في الجزائر وأرسلته إلي روما، تمهيدا لنقله إلي الجزائر، ولا أدري هل التمثال المنصوب في باغاي بالأوراس في الجزائر هو التمثال المصنوع في إسرائيل. وقد رأيت أن أنشر نص ما ورد عن الكاهنة في كتابي (الجزائر في التاريخ) الذي هو بصدد دفعه للمطبعة، وذلك تنويرا لقراء القدس العربي :

وصل حسان بن النعمان المغرب فحاصر قرطاج التي كانت بين أيدي الرومان كعاصمة للمغرب، فاقتحمها وافتتحها وأمر بتدمير سورها، ثم تقدم فافتك بنزرت من الروم، ثم عاد إلي القيروان بعد أن طهر الساحل من برقة حتي قرطاج. ثم توجه إلي جبال أوراس النمامشة للقضاء علي حركة الكاهنة التي خلفت كسيلة في تمردها علي الفتح العربي الإسلامي. كانت الكاهنة جالسة علي عرش رئاسة قبيلة جراوة بهذه الجبال. (توجد قبيلة باليمن حتي الآن تسمي آل جراو).
كان جيش حسان قد أضعفته المعارك التي خاضها ضد البيزنطيين، فعندما واجه جيش الكاهنة الذي كان جاهزا للحرب مرتاحا، انهزم أمامه. اتخذت الكاهنة هضبة ثازبنت كمقر لجيشها قرب مدينة تبسة، تدربه فيها وتستعد للقتال، وما زالت حتي الآن صومعة الكاهنة كما يسميها الشعب قائمة بدوار ثازبنت، وهي عبارة عن برج معسكر بني بحجارة ضخمة يشير إلي أن هذا هو مقر الكاهنة الرئيسي. ومن الغريب أن هذه المنطقة نفسها هي التي اتخذها تاكفاريناس ويوغورطا معقلا لجيوشهما. ومن غير شك فإن الكاهنة كانت تراقب من مرتفعات الهضبة المطلة علي سهل تبسة تحركات الجيش العربي. وتتابع تقدمه، وأنها اختارت هي موقع المعركة سنة 75 هـ 693 م.
يبدو أن القائدة البربرية عندما شاهدت جيش حسان يطل من بكارية آتيا من الحدود التونسية الجزائرية الحالية، ويتقدم نحو الغرب مخترقا سهل تبسة ومتجها نحو منطقة حلوفة، نزلت من هضبة ثازبنت، وتوجهت إلي المنطقة المسماة مسكيانة (اسمها بالبربرية: ميس الكاهنة، أي ابن الكاهنة)، فقد قتل بالمكان ابن الكاهنة فسمي باسمه، وما زالت هذه القرية تحمل نفس الاسم. انتشرت الكاهنة بجيشها في التلال المحيطة بهذه المنطقة، وفاجأت الجيش الإسلامي، فانطلقت من التلال، ويبدو أن الجيش العربي فوجئ بالهجوم الذي كان يشبه كمينا كبيرا، ودارت معركة شرسة، تمكنت الكاهنة من هزم الجيش العربي، وأسر ثمانين من قادته جلهم من التابعين. وعندما شعر حسان بأن المعركة حسمت، انسحب بما تبقي له من قوات. وطاردته الكاهنة حتي مدينة قابس. وانسحب حسان بقواته إلي طرابلس وبقي ينتظر المدد. وبني بهذه المدينة معسكرا لجيشه سمي منازل حسان. أما القيروان فقد بقيت بأيدي المسلمين ولم تلحق الكاهنة بهم أي أذي بل وأمّنتهم. ثم سقطت فيما بعد مدينة قرطاجة بين أيدي البيزنطيين وذلك سنة 76 هـ 695 م. ويذكر المؤرخون أن الزعيمة البربرية كانت تتصور أن العرب مثل الرومان، فقامت بتدمير الحصون، وحرق المدن والبساتين، حتي يزهد العرب في بلاد خراب، فيعودون من حيث أتَوا. ويذكر ابن عذاري: إن الكاهنة عملت علي القضاء علي مظاهر العمران، اعتقادا منها بأن العرب يسعون وراء العمران حيث الذهب والفضة، فوجهت قومها إلي كل ناحية في بلاد إفريقية يحرقون المزارع، ويهدمون الحصون، فبعد أن كانت إفريقيا ظلا واحدا من طرابلس إلي طنجة، قري متصلة ومدنا منتظمة، تلاشي هذا كله، وشمل الخراب سائر هذه البلاد (1). وفي رأيي فإن كلام ابن عذاري فيه كثير من المبالغة.
عادت الكاهنة إلي موقعها في جبال أوراس النمامشة. ويبدو أن هضبة ثازبنت استمرت كمقر لقيادتها. اجتمعت بالأسري الثمانين، حاورتهم وسألتهم عن دينهم فاكتشفت أنهم لم يأتوا مستعمرين وإنما حاملين لرسالة، كما اكتشفت أن لغتهم ليست غريبة عن لغة قومها غرابة لغة الرومان، بل هي أخت لها، ومن غير شك فإنها تمكنت من التحدث مع بعضهم القادمين من اليمن بدون ترجمان، سألتهم عن عاداتهم وتقاليدهم فوجدت توافقا غريبا بينها وبين عادات وتقاليد قومها، فحدث زلزال في نفسها، كانت نتيجته أن أطلقت سراح الأسري، واحتفظت بأذكاهم وأوسعهم ثقافة وحفظا للقرآن وتفقها في الدين وهو خالد بن يزيد العبسي، وكلفته بتعليم ولديها العربية والقرآن. بل وعمدت إلي تبنيها لخالد وفقا لشعائر دينها، ولنستعرض ما كتبه المالكي حول هذا التبني: عمدت إلي دقيق الشعير فلثته بزيت، وجعلته علي ثديها، ودعت ولديها وقالت: كلا معه علي ثديي من هذا.. ففعلا، فقالت: صرتم إخوة (2).

ويبدو وفقا لروايات المؤرخين أن الكاهنة ضعف حماسها بحربها ضد العرب، ودخلت في صراع نفسي حاد، توصلت بضغطه إلي اتخاذ قرار بتحرير ولديها بل وحثهم علي عدم اتباعها في حربها، أما هي فقد وعدت قومها عند تعيينها ملكة عليهم أن تقاتل في سبيلهم حتي الموت، ولا بد لها من أن تفي بوعدها. ويجمع المؤرخون أنه ما كادت الكاهنة تعلم بوصول جيش حسان إلي إفريقية وتوجهه نحو منطقة تبسة حيث ترابط، حتي غادرت المنطقة واتجهت نحو الجنوب، بعد أن أوصت خالد العبسي أن يصحب ولديها ويستأمن لهما عند حسان. ويقول ابن خلدون: وكان للكاهنة ابنان قد لحقا بحسان قبل الواقعة، أشارت عليهما بذلك أمهما دهيا، وهبا لإشارة علم كان لديها في ذلك من شيطانها، فتقبلهما حسان، وحسن إسلامهما واستقامت طاعتهما.. وعقد لهما علي قومهما جراوة ومن انضوي إليهم بجبل الأوراس (3).

ويوعز ابن خلدون موقفها هذا إلي كهانتها، أي مهارتها في قراءة الغيب، التي كشفت لها أن العرب سينتصروا وسيدين المغرب بدينهم. ولهذا فقد لقبها العرب بالكاهنة. ويروي عنها أنها قالت لولديها وهي تودعهما: خذ يا خالد أخويك إلي حسان، أوصيكما يا ولديّ بالإسلام خيرا أما أنا فإنما الملكة من تعرف كيف تموت.. .

ويلاحظ أنها قالت كيف تموت، ولم تقل كيف تنتصر، وهكذا توجهت بغير إيمان بحربها فخاضت آخر معركة لها في منطقة بئر العاتر جنوب ولاية تبسة، سنة 82 هـ ، وهزم جيشها وقتلت في المعركة. وما زالت حتي الآن البئر التي حفرتها عندما حصرها العرب ومنعوا عن جيشها الماء، ما زالت قائمة تدر الماء، ويسميها الناس بهذه المنطقة: (بئر الكاهنة).
نستنتج من قصة الكاهنة ما يلي:

1 ـ إن الكاهنة حاربت العرب لأنها كانت تجهل عنهم أي شيء، وعندما احتكت بهم من خلال حوارها مع الأسري العرب الذين وقعوا بين يديها في معركة مسكيانة، لم تكتشف فيهم فحسب عدالة الرسالة التي حملوها، وإنما اكتشفت في لغتهم وعاداتهم تشابها كبيرا بل وتطابقا مع لغتها وعادات قومها، فاهتز في نفسها الإصرار علي دحر العرب. فقررت أن تفي بعهدها فتقاتل حتي الموت، لكنها حررت ولديها وكل من يريد التخلي عن الحرب.

2 ـ تدل قصتها مع خالد بن يزيد العبسي، ومع ولديها علي ما أوردناه في الفقرة السابقة، لأنه ليس من المعقول أن يقوم قائد عسكري مثل الكاهنة بتسليم فلذات كبده إلي عدوه يربيهم علي دينه وعلي لغته وثقافته، ما لم يقع زلزال في نفسه. لدرجة أن المؤرخين العرب فسروه علي أنه كهانة. أما عن تخريج بعض المؤرخين الغربيين ـ الذي تبنته جيزيل حليمي ـ بأنها وقعت في غرام خالد فأمر غير منطقي، لأن فارق السن كبير. فخالد كان شابا، والكاهنة كان عمرها 127 سنة مثلما يذكر المؤرخون.

3 ـ لقد أورد المؤرخون قصة احتاروا في أمرها، فعندما هزمت جيش حسان وطاردته حتي طرابلس، دخلت مدينة القيروان، وتجولت في شوارعها ثم غادرتها دون أن تتعرض لا للمدينة ولا لأهلها بسوء، وهو أمر غريب ومحير. هل بدأت تدرك مدي قربها وقرب قومها من هؤلاء العرب؟ هل بدأت تقتنع بعدالة الرسالة التي حملوها معهم، وبخاصة وهي المرأة المحنكة مثلما أورد ابن خلدون: عاشت 127 سنة، وملكت 35 سنة ، فأتاحت لها هذه التجربة الواسعة اكتشاف أصول قومها في العرب، فحررت ولديها من مهمة الاستمرار في محاربة العرب، بل وحثتهما علي اعتناق الإسلام، والتآخي مع العرب. يتبين مما سبق أن قصتي كسيلة والكاهنة قد حرفتا من طرف المؤرخين الفرنسيين، المنظرين للاستعمار، وفلاسفة فرْنسة الجزائر، والآباء البيض مبشري الاستعمار ورواده، وتلاميذهم الجزائريين من أتباع النزعة البربرية. إن موقف الكاهنة هذا يؤكد انتماء البربر والعرب إلي أرومة واحدة. فقبل دخول الفرنسيين الجزائر سنة 1830 م، لم يكن في المغرب بربري واحد يقول بفصل العرب عن البربر، وباستبدال العربية بالبربرية. هذه كلها حقائق تفند أكاذيب جيزيل حليمي التي تغلبت يهوديتها علي تقدميتها، التي تزعم أن لليهود الحق في المغرب العربي كما أشار لذلك الدكتور محمد الوادي، وهي نظرية صهيونية، فهي تزعم أن الكاهنة يهودية وهي وثنية بشهادة الرواة والمؤرخين العرب. ونحن لا ننكر أبدا أن الفتح الإسلامي وجد مغاربة يدينون باليهودية والمسيحية فعاملهم معاملة أهل الكتاب، لكن الكاهنة لم تكن يهودية.

كاتب من الجزائر

(1) ابن عذاري (أبو العباس): البيان المغرب في أخبار المغرب صفحة 36 ـ بيروت 1950
(2) المالكي (أبو بكر): رياض النفوس صفحة 34 ـ القاهرة 1951.
(3) ابن خلدون: كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والبربر … ج 7 صفحة 18 ـ بيروت 1968.