خرج أمير المؤمنين رضي الله عنه ذات يوم في جولة تفتيشية، فرأى إبلاً سمانًا تمتاز عن بقية الإبل بنموها وامتلائها، فسأل عمر رضي الله عنه إبل مَن هذه؟، قالوا: إبل عبد الله بن عمر، فانتفض أمير المؤمنين، وقال: عبد الله بن عمر!! بخٍ بخٍ يا ابن أمير المؤمنين!!.
وأرسل في طلبه من فوره، وأقبل عبد الله يسعى، وحين وقف بين يدي والده أخذ عمر يفتل سبلة شاربه، وتلك كانت عادته إذا أهمه أمر خطير، وقال لابنه:
ما هذه الإبل يا عبد الله؟
فأجابه: إنها إبل أنضاء -أي هزيلة– اشتريتها بمالي، وبعثت بها إلى الحمى أتجر فيها، وأبتغي ما يبتغيه المسلمون.
فغضب عمر في تهكمٍ لاذع، وقال لعبد الله بن عمر: يقول الناس حين يرونها –أي الإبل– ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، وهكذا تسمن إبلك، ويربو ربحك يا ابن أمير المؤمنين، ثم صاح به: يا عبد الله بن عمر: خذ رأس مالك الذي دفعته في هذه الإبل، واجعل الربح في بيت مال المسلمين.
بتحليل هذا الموقف تربويًّا نلاحظ حرص أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه على مناقشة ابنه والتحاور معه؛ لإقناعه، ورأى فيما صنعه ابنه شبهة لم يستسغها، فلم يقتنع بقوله، ومن ثَمَّ طبق عليه العدالة، فحرمه الربح الذي كان ينتظره، وأمره أن يبيع الإبل، ويأخذ من ثمنها ما دفع، لا يزيد شيئًا، وكان هذا أسلوبًا مؤثرًا في تعديل سلوك الابن.
لقد كان في مقدور سيدنا عمر رضي الله عنه أن يصدر قراره دون أن يستدعي ابنه عبد الله، أو يناقشه ويحاوره دون أن يتيح له فرصة الدفاع عن نفسه، وخاصةً أن للخليفة على رعيته حق السمع والطاعة، وكذلك للأب على ابنه هذا الحق، ولكنه رضي الله عنه استدعاه وناقشه وحاوره، ودافع عبد الله بن عمر عن وجهة نظره في قوله إنها إبل أنضاء اشتريتها بمالي، وليس بمال أحد، وبعثت بها إلى الحمى، أتجر فيها وأبتغي ما يبتغيه المسلمون.. أي أنه رضي الله عنه لم يمارس حقًّا خاصًّا به، ولم يسمح لنفسه بصلاحيات خاصة؛ لأنه ابن أمير المؤمنين بل استثمر واعتنق وسيلةً استثمارية هي ذاتها التي يستخدمها جميع المسلمين.
مثل هذا الموقف نستلهم منه أسلوب التربية بالحوار والإقناع، فالتربية الحوارية العقلية والإقناع من الأساليب المهمة في تربية أولادنا.
مفهوم التربية بالإقناع:
أحد أساليب التربية الإسلامية يستخدم فيه المربي طرقًا مؤثرة تهدف إلى إقناع المتعلم بالصواب في قضية أو فكرة معينة، بعيدًا عن أية مؤثرات سلبية، كالإجبار والإكراه أو مؤثرات خارجية غير مقنعة.
التربية بالحوار والإقناع تربية إسلامية:
التربية بالإقناع من أساليب التربية المؤثرة المهمة؛ لذا ركَّز عليها الإسلام، فكثيرًا ما نجدها في القرآن، كما نجدها في سنة رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.
بالحوار والإقناع يقوى الإيمان:
مَن يقرأ القرآن الكريم ويطلع على سنة النبي صلى الله عليه وسلم يجد اهتمام القرآن والسنة بالتربية العقلية عن طريق الحوار والإقناع، وخاصةً في تثبيت الإيمان وتقويته.
التربية بالإقناع في القرآن الكريم:
ينتشر أسلوب التربية بالإقناع في القرآن الكريم، فمن القضايا التربوية الإيمانية التي اهتمَّ بها القرآن الكريم قضية إثبات إحياء الموتى، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (Cool وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)﴾ (ق).
فقد لفت القرآن الكريم الأنظار هنا إلى إبداع الله وجمال صنعه في الكون، وإلى السماء وعظمة بنائها وجمال زينتها، والأرض بجبالها وما بها من كل زوج بهيج، كان له بعد الموت حياة ونماء بعد إنزال الماء من السماء، كما لفت القرآن الأنظار إلى ما بين السماء والأرض من سحب وأمطار، وكيف أنبت بها الجنات والحب الحصيد والنخل المرتفع النضيد، وهي في حقيقتها أدلة إيمانية منطقية مقنعة، تؤيد بعث الناس وخروجهم؛ لذا ختم الآية الأخيرة بقوله سبحانه ﴿كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾.
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)﴾ (يس).
التربية النبوية بالحوار:
تعجُّ السيرة النبوية بمواقف وأحداث تربوية اتخذ فيها رسولنا الحكيم صلى الله عليه وسلم الحوار أسلوبًا، وكان مؤثرًا سواء في تثبيت فكرة في عقول أصحابه رضي الله عنهم، أم في تهذيب نفوسهم، أو في إقناعهم بأمر ما.
ومن ذلك هذا الحديث الذي رواه جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بجدي أسك (أي مقطوع الأذنين) ميت في السوق، فتناوله، ثم قال: "أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟" قالوا ما نحب أنه بشيء أو ما نصنع به؟ قال: "أتحبون أنه لكم؟" قالوا: والله لو كان حيًّا كان هذا السك عيبًا فكيف وهو ميت؟ فقال "فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم".
فهذا موقف تربوي استثمره النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى جديًا مقطوع الأذنين، ميتًا تزكم رائحته الأنوف، يمسكه ويعرض على أصحابه أن يشتروه بدرهم، فيعزفون عنه ويأبون، فيحاورهم، موضحًا بما تفيدهم جيفة قذرة؛ لأن الجدي لو كان حيًّا وهو مقطوع الأذنين ما رغبوا فيه فكيف وهو ميت.
فقد حاورهم صلى الله عليه وسلم حتى وصلوا إلى قرار العزوف عن هذه الجيفة، وهنا أخبرهم بهوان الدنيا وتفاهتها؛ ليعمِّق فيهم الزهد فيها، ويخرجها من قلوبهم، ويحثهم على الإقبال على الآخرة؛ لأن الدنيا لو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء.
من هنا يتضح ما للحوار من تأثير تربوي فهو من وسائل الاتصال الفعالة، وتزداد أهميته في التواصل مع أولادنا، سواء في البيت أم المدرسة؛ لذا هذا الأسلوب التربوي برز في القرآن الكريم والسنة المطهرة.
السؤال الذي يفرض نفسه الآن هو: كيف نتحاور مع أولادنا؟ والإجابة عن هذا السؤال هي موضوع المقال القادم بمشيئة الله تعالى.
د. سمير يونس