قراءة في مقال "باي باي" بوش




شيرين حامد
فهمى

مظاهرة "لوداع" بوش!
ما هي الأخطاء الرئيسية التي أفضت إلى فشل إدارة "جورج دبليو. بوش"؟ حول إجابة هذا السؤال صدرت ثلاثة كتب أمريكية في عام 2008، متناولة "خطايا" تلك الإدارة التي امتدت طيلة سبع سنوات. وهي تلك الكتب التي ناقشها وعلق عليها "آدم جارفينكيل" -وهو محرر "ذي أمريكان إنتريست" والمُعد السابق لخطب وزير الخارجية الأمريكية فيما بين عامي 2003 و2005- فأكّد في بداية مقالته بعنوان "باي باي بوش" أن الكتب المعنية لم تتعرض أو تتطرق إلى الحديث عن أكاذيب الإدارة الأمريكية حول وجود أسلحة دمار شامل في مرحلة ما قبل حرب العراق 2003؛ هذا إضافة إلى عدم اتباعها المنهج العلمي الرصين المعهود في العلوم الاجتماعية. وفوق ذلك كله، يرى "جارفينكيل" أن أسباب الفشل "البوشوي"، المذكورة في الكتب الثلاث، إنما هي أسباب غير رئيسية، وإن كانت هي أسباب مُساهمة ومُساعدة لفهم الخلفية. ويظل الكاتب مُسلطا عينيه الناقدتين على محتوى تلك الكتب، حتى يُطلعنا في نهاية مقاله على السبب الرئيسي والحقيقي لفشل الإدارة الأمريكية الحالية.[/size]
الخطأ الأول
يعتبر فشل "بوش" الابن في قراءة كل من نهاية الحرب الباردة عام 1989 وهجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 هو الخطأ الأساسي في مسار الإدارة الأمريكية الحالية. هذا ما افترضه "فريد كابلان"Fred Kaplan في كتاب "المؤمنون الحالمون: كيف استطاعت بعض الأفكار الكبيرة أن تهز القوة الأمريكية"؛ حيث يؤكد - خلافا لمعظم الكتابات والأدبيات الأمريكية - أن هذين الحدثين لم يُدعما شوكة الولايات المتحدة، ولم يُعضدا قوتها النسبية؛ بل أضعفا كلا منهما.
ويُكمل "كابلان"، مؤكدا أن أحداث سبتمبر 2001 لم تُغير كل شيء، كما افترضت إدارة "بوش"؛ وأن رد فعل تلك الإدارة المُغالى فيه، مع توجهها نحو صناعة سياسات معتمدة على التفوق الأمريكي، جعل الولايات المتحدة أكثر ضعفا. ويُرجع "كابلان" رد الفعل المُغالى فيه إلى المحافظين الجُدد الذين احتكروا تفسير أحداث سبتمبر؛ وهو التفسير الذي تماشى - وما زال يتماشى - مع حالة الرئيس المزاجية والنفسية.
ويختتم "كابلان" كتابه منتقدا ما يُسمى "أجندة الحرية"؛ تلك الأجندة الساذجة - على حد وصفه - التي أوقعت إدارة "بوش" في "مطبات" بالعراق وأفغانستان، لم تستطع الخروج منها حتى هذا اليوم. فهي أجندة لم تهتم بالتفاصيل قدر اهتمامها بالأفكار الكبرى. لقد كان مسئولو تنفيذ تلك الأجندة عازفين عن الاهتمام بأدق تفاصيل الحروب في الشرق الأوسط؛ عازفين عن تفهم حقائق ووقائع المنطقة، وعن إدراك كيفية تحقق الحرية فيها. ويعلق "كابلان" على تلك الأجندة مؤكدا: "إنه ضربٌ من السذاجة أن يؤمن بوش بأن الإطاحة بالديكتاتور العراقي سوف تُفضي إلى الليبرالية". لقد دمر "بوش" وأعوانه - بهذه السذاجة - المُثل والمصالح الأمريكية معا.
ويخلص "كابلان" إلى حصاد تلك الإدارة طيلة السنوات السبع الماضية؛ ذلك الحصاد الذي أفرز حقيقتين رئيستين: تيارا محافظا جديدا مهيمنا، وسياسة نفعية غير أخلاقية. ويتساءل متعجبا: أنى للولايات المتحدة أن تتصرف في القرن الواحد والعشرين في ظل هاتين الحقيقتين السوداوين؟
الخطأ الثاني
وفي كتاب "هم يعرفون أنهم على حق" - للمؤلف "يعقوب هيلبرون" Heilbrunn Jacob - كان السبب الرئيسي وراء فشل إدارة "بوش" كامنا في العقلية اليهودية المتأصلة في تيار المحافظين الجدد الذين تعاقدوا وتشابكوا مع "بوش" منذ توليه الرئاسة في عام 2000؛ حيث سلط الكاتب الضوء على تجربة المهاجرين اليهود إلى الولايات المتحدة، وترعرعهم في ظل مناخ الأقلية. وبداية، يؤكد "هيلبرون" أن تيار المحافظين الجدد لا يُمثل أيديولوجية أو رد فعلٍ على خيبة أمل اليسار الأمريكي؛ ولكنه يمثل عقلية يهودية، "تم تشكيلها من قِبل خبرة اليهود المهاجرين إلى الولايات المتحدة، ومن قِبَل الهولوكوست، وأخيرا من قِبَل تيارات كفاح القرن العشرين ضد الشمولية". لقد عاش اليهود المهاجرون إلى الولايات المتحدة - كما يرى "هيلبرون" - تحت وطأة اضطهاد الأمريكيين البيض الأنجلوسكسونيين أو الـWASP؛ وظلوا يعانون من وضعهم كأقلية خارجة عن المجتمع الأمريكي؛ الأمر الذي دفعهم إلى جعل العقيدة اليهودية، بدلا من الأيديولوجية الديمقراطية، المحور الأساسي لمنظومتهم الفكرية.
ويشير "هيلبرون" إلى المنهج التلمودي الذي بلوره "ليو شتراوس" - من أبناء المهاجرين اليهود إلى الولايات المتحدة في القرن العشرين - وكيفية إنزاله لهذا المنهج على النصوص الدينية المختلفة. كما يشير إلى الجيل الثاني من المحافظين الجدد الذين بدلوا قصص البطولات التاريخية للولايات المتحدة وإسرائيل بقصص الواقع التاريخي اليهودي، معتقدين أن الأقلية المُسلحة بالحق يمكنها تغيير التاريخ، معتبرين أنفسهم أشباه الأنبياء في قلتهم ورسالتهم في إرساء السلام الأبدي.
وإذا كان المحافظون الجدد منحصرين في الحزب الديمقراطي في مرحلة الستينيات، فقد توجهوا نحو الحزب الجمهوري في السبعينيات والثمانينيات، بعد خيبة أملهم في الحزب الديمقراطي الذي مُني بفشلٍ ذريع في مشاريعه المحلية. وإذا كان العقد الأخير من الحرب الباردة قد شهد تحالفا بين المحافظين الجدد وإدارة "ريجان" - مع استمرار ذلك التحالف حتى بعد خروج "ريجان" من الرئاسة - فقد شهدت مرحلة ما بعد أحداث سبتمبر تحالفا بين المحافظين الواقعيين ("ديك تشيني" و"دونالد رامسفيلد") والمحافظين الجدد المثاليين.
ويأخذ "جارفينكيل" على تلك الفرضية، اعتبار المحافظين الجدد الحاليين هم الأصل؛ بينما الحقيقة تقول غير ذلك؛ إذ يتبرأ مؤسسو هذا التيار من مواقف التيار الحالية؛ وهو ما يتجاهل "هيلبورن" ذكره في الكتاب. بمعنى آخر، إن الكاتب لم يتطرق إلى تناول أصل قوة التيار المحافظ الذي كان داعما للقيم الاجتماعية.
تراجيديا بوش
وفي كتاب "تراجيديا بوش" للكاتب "يعقوب وايزبيرج" Weisberg Jacob، كانت الفرضية الأساسية هي إرجاع فشل "بوش" إلى علاقته المتأزمة بوالده الذي كان يعتمد أكثر على أخيه "جيب"، نظرا لتفوقه الدراسي على "بوش". فقد كان فشل "بوش" في دراسته، وسيرته العلمية الضحلة، سببا في سحب والده ثقته منه؛ الأمر الذي ولد لديه عقدة نفسية، جعلته دوما ناقما متحديا فشله في محيط أسرته. وقد لا يُسلم "جارفينكيل" بتلك الفرضية "الشكسبيرية-الفرويدية"، مؤكدا بأن "وايزبيرج" ليس كفئا -من الناحية الأكاديمية- للخروج بتلك الفرضية.
ويُقسم "وايزبيرج" تراجيديا "بوش" إلى ثلاثة فصول: الفصل الأول يتمثل في "صراع بوش -حتى سن الأربعين- ليكون مثل والده"؛ والفصل الثاني يتمثل في "تعاظم نجاحاته عبر السنوات الخمس عشرة اللاحقة، بعدما تعلم أن يكون مختلفا عن أبيه"؛ وأما الفصل الأخير فيتمثل في "بحثه عن عقيدة تُفسر له الشئون الدولية، ومن ثم سقوطه في براثن المسيحية الصهيونية".
لقد كان تفضيل والدي "بوش" لأخيه "جيب" -كوريث لتاريخ العائلة السياسي- سببا كافيا ومباشرا لتوجه "بوش" نحو صناعة نجاحه بطريقته الخاصة التي لا تنتمي إلى فرع عائلة "بوش" وإنما إلى فرع عائلة "ووكر"؛ وهما العائلتان اللتان ينتمي إليهما "بوش"، كما يذكر "وايزبيرج". فإذا كانت عائلة "بوش" البروتستانتية، ذات الأصول الإنجليزية، معروفة بالتواضع وباندراجها في الوظائف العامة، فإن عائلة "ووكر" الكاثوليكية، القادمة من ولاية "ميريلاند" الأمريكية، عُرف عنها الثراء الفاحش الجديد غير الأصيل، والأنانية والسطحية في السلوك.
لقد كانت معظم قرارات "بوش" متأثرة بفرع "ووكر"؛ حيث كان تأثره بجده "بيرت ووكر" واضحا في شخصيته، كما يشير الكاتب. فرد الفعل الأهوج، وصناعة القرار بثقةٍ مفرطة دون تخطيط ناضج؛ كلها كانت تصرفات ورثها وتطبع بها "بوش" من تلك العائلة؛ لدرجة قيامه بتكوين أسرةٍ جديدةٍ تتفق مع معايير عائلة "ووكر". فإذا به يختار "تشيني" أبا رمزيا له بعد وفاة والده، و"كونداليزا رايس" أختا رمزية له بدلا من أخته التي توفيت في طفولته.
وكما يُرجع الكاتب فشل "بوش" إلى علاقته المتأزمة مع أبيه، فقد يُرجعه أيضا إلى طريقة تدينه، حيث جعل "بوش" الدين جزءا من إرادته السياسية، أو أداة توظيفية للاستخدام السياسي. وعلى كل حال، فعلى الرغم من موافقة "جارفينكيل" على هذا التحليل، فإنه يراه غير كافٍ، مستبعدا أن تكون القرارات الرئاسية مُحددة من قبل العلاقة الديناميكية بين الأب والابن الرئيس؛ معتبرا أن المحيط الأوسع للسياسات المحلية والدولية هو الفاصل الحقيقي.
السبب المحوري للفشل
"تعددت الأسباب والسبب واحد".. هذا ما يفترضه "جارفينكيل" في نهاية مقاله. فإن كانت الأسباب السالف ذكرها قد ساهمت -بطريقةٍ أو بأخرى- في فشل إدارة "بوش" الابن، إلا أنها ليست أسبابا ثابتة. بمعنى، أنها تتغير بمرور الزمن، فتظهر بطريقةٍ مختلفة عما كانت عليه في الأصل. فالحكم على المراحل التاريخية خاضع لما يحمله المستقبل من مجهول. فقد يكون فشل "أجندة الحرية" في العراق، ورد فعل البيت الأبيض على أحداث سبتمبر أسبابا مساهمة، ولكنها ليست أكيدة أو نهائية. ومن ثم يتساءل "جارفينكيل" متعجبا: من الذي يمكنه أن يتكهن بالآثار بعيدة المدى للسياسة الأمريكية الحالية في الشرق الأوسط؟ ألا يمكن أن يخرج جيل ثالث من المحافظين الجُدد، ليصيروا أفضل من سابقيهم؟ أما السبب الحقيقي والثابت - من منظور "جارفينكيل" - فهو يتمثل في الفجوة الهائلة المتواجدة بين الهيمنة الثقافية والاقتصادية الأمريكية من ناحية وبين فشل الحكومة الفيدرالية الأمريكية في التصدي للتحديات من ناحيةٍ أخرى. ذلك هو السبب المحور الذي تدور الأسباب الأخرى في فلكه.
وهي تحديات تبدأ من فشل الحكومة الفيدرالية في التعامل مع النمو الآسيوي الواضح وانتقال الثروات من الغرب تجاه الشرق، إلى فشل الحكومة الفيدرالية في التعامل مع القضايا المؤسساتية الداخلية مثل "وزارة الأمن الداخلي" التي أثقلت الجهاز البيروقراطي الأمني القومي بأعباءٍ لا حصر لها، جعلت الأراضي الأمريكية أقل أمنا وأمانا، إلى فشل الحكومة الفيدرالية في التعامل مع قضايا الحكم الداخلي، إلى فشل الحكومة الفيدرالية في التعامل مع الأعاصير والرياح.
"إن التناقض الصارخ بين التوهج الثقافي الاقتصادي الأمريكي وبين تعثر الحكومة الفيدرالية الأمريكية - ذلك التعثر الذي تمثل في التعامل المؤسف مع عاصفة كاترينا ومع الأزمات المُركبة والمتزايدة يوما بعد يوم في العراق - هو القضية المحورية. وهناك الكثير من الخطايا الخافية التي أظهرت ذلك التناقض على مدى سبع سنواتٍ ماضية. تلك الخطايا الخافية هي التي تفسر الفشل "البوشوي"، وليست الخطايا الظاهرة التي تحدث عنها كابلان وهيلبرون ووايزبيرج".


باحثة دكتوراة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.


* حول مقالة بقلم "آدم جارفينكيل" Adam Garfinkle نُشرت في عدد مارس/ أبريل 2008 من مجلة "قضايا خارجية-Forigne Affairs" الأمريكية، تناولت ثلاثة كتب صدرت هذا العام حول أخطاء إدارة بوش.