أنفاق غزة.. الابتكار النضالي الكبير


[09:42مكة المكرمة ] [18/08/2008]


بقلم: بلال الحسن








جيفارا غزة /محمد الاسود/ Ikh1
بلال الحسن
في السبعينيات كان جيفارا غزة (محمد الأسود من لاجئي حيفا) مسئول الجبهة الشعبية في القطاع، ملاحَقًا من قِبل الكيان الصهيوني، ومن قِبل المقدم آرييل شارون بالذات، ولكن الكيان عجز لسنوات عن القبض عليه؛ ذلك أن جيفارا غزة كان أحد القادة الأوائل الذين اكتشفوا أسلوب الأنفاق ولجئوا إليه لكي يواصلوا نضالهم، متجاوزين قسوة الحصار الصهيوني وكثافة الملاحقة الصهيونية.
كانت الأنفاق تُحفَر تحت البيوت، وتمتد من منزلٍ إلى منزل، وكان الهاربون من الملاحقة الصهيونية يتنقلون خلالها بحيث يعجز الصهاينة عن معرفة أماكن وجودهم.
ومع الزمن تطوَّرت قضية الأنفاق في قطاع غزة المحاصر دائمًا، وامتدت إلى خارج الأرض الفلسطينية نحو سيناء وأرض مصر، وكانت مصر لسنوات طويلة طويلة، أرضًا حنونًا؛ تحتضن أولئك المتنقلين بالأنفاق ذهابًا وإيابًا، وكان جُلُّ هؤلاء المتنقلين عبر الأنفاق مقاتلين يهرِّبون الأسلحة والذخائر لمواصلة نضالهم ضد الاحتلال، وكان هناك تجار ينقلون البضائع لسد حاجات أهل القطاع، ولم يَخْلُ الأمر من مهربين يتعاطون مهنًا غير شريفة.
وكانت مصر طوال تلك السنوات تعرف ما يجري عبر الأنفاق وعبر حدودها، وإذا أرادت التصدي لمهرِّبين تصدت لهم فوق أراضيها، بينما كانت تغض الطرف عما يفعله الفدائيون وعما ينقله الفدائيون.
ومع الزمن أصبحت الأنفاق داخل مدن قطاع غزة وعبر حدود قطاع غزة مع مصر، أسلوبًا نضاليًّا، وأسلوبًا حياتيًّا لأهالي القطاع، أصبحت الأنفاق هي الابتكار الصعب الذي مكَّن أهاليَ القطاع من مواجهة الاحتلال، ومن تأمين وسائل العيش.
كان الكيات الصهيوني يعرف بالتفصيل قضية الأنفاق وما يجري عبرها ويحاول القضاء عليها، وكانت مصر تعرف بالتفصيل قضية الأنفاق وما يجري عبرها وتغض الطرف عما يجري إلا حين يكون هناك مساس بأمنها يمثِّله المهرِّبون للمواد الخطرة الممنوعة (المخدرات) ولا شيء سواها.
كانت الأنفاق الابتكار النضالي الفلسطيني، الابتكار الصعب الذي يستحق التقدير والاحترام، والذي لم تُرْوَ قصته كاملة حتى الآن.
وحين قرر الكيان الصهيوني، في عهد رئيس الوزراء آرييل شارون، الانسحاب هو ومستوطناته من قطاع غزة توقَّف عند قضية الأنفاق، خشيةَ أن يزداد عبرها تهريب الأسلحة ذات الطبيعة النوعية، فاقترح بناء جدار إسمنتي، يضرب عميقًا في الأرض بحيث يصبح عائقًا أمام حفر الأنفاق، واقترح أيضًا بناء سد مائي يهدد كل نفق يحفر بالغرق، ولكن هذه الاقتراحات لم تستطع أن تجد طريقها إلى التطبيق.
ثم جاءت مرحلة سيطرت فيها حركة حماس على قطاع غزة، وبدأت مصر تتعاطى مع الأنفاق بطريقة مختلفة؛ فهي تعلن بين حينٍ وآخر أنها اكتشفت نفقًا ودمَّرته، وتقول الصحف أحيانًا إن أجهزة حديثة وصلت إلى مصر للمساعدة في اكتشاف الأنفاق.
وفي ظل الحصار الصهيوني الكامل لقطاع غزة، وفي ظل إغلاق المعابر، وبينها معبر رفح المخصص لانتقال وسفر المواطنين، بدأ استعمال الأنفاق أحيانًا لأسباب أخرى؛ فعبرها قد ينتقل الطلاب أو بعض المرضى، ونسمع في الأنباء أحيانًا أن معبر رفح قد فُتِحَ بشكل استثنائي لمرور هذا المريض أو ذاك، ولعودة هذا المسئول أو ذاك، ولا أحد يفكِّر في فتح المعبر بشكل دائم، ولو حتى باعتباره وسيلةً من وسائل تخفيف حاجة المواطنين لاستعمال الأنفاق، للتنقُّل أو لنقل الغذاء.
هذه الصورة تبرز أمامنا الآن بينما تبادر مصر إلى "التمهيد"- مجرد التمهيد- لبدء حوار فلسطيني- فلسطيني برعايتها من أجل إنهاء الانقسام القائم بين غزة ورام الله، ولا بد أن تكون مصر مشكورة على أداء هذا الدور؛ فقد اعتادت مصر وجيشها وشعبها أن تكون دائمًا حضنًا دافئًا للفلسطينيين، معيشيًّا وسياسيًّا ونضاليًّا، وهي مؤهلة أكثر من غيرها لرعاية حوارات الفلسطينيين ومساعدتهم في حل مشاكلهم الداخلية.
وقد أرسلت مصر في الأسبوع الماضي رسالةً إلى الفصائل الفلسطينية المفترض أنها ستشارك في الحوار، وتضمَّنت الرسالة أسئلة حول الموقف من قضايا عدة، وأوحت الأسئلة أن من يُجِبْ عنها بطريقة "مقبولة" فسيُدعى إلى الحوار، ومن يُجِبْ بطريقة "غير مقبولة" فسيُستَثنَى من الحوار، وأثارت هذه الأسئلة استغراب الكثيرين، ورأى فيها البعض نوعًا من الحوار المشروط، ورأى البعض أن الحوار التمهيدي المشروط هذا سيعرقل الوصول إلى الحوار الفعلي، وآنئذٍ يحق لمصر أن تقول إن ظروف الفصائل ليست مهيَّئة للحوار، ويبقى "نفق" الحوار مغلقًا ومسدودًا بجدار أو بحاجز مائي.
ولكن النفق المسدود لا يقتصر على الحوار الفلسطيني المنشود، والذي يؤكد الجميع، وعلى رأسهم الرئيس محمود عباس، أنهم يريدونه بجدية، ولكن هم لا يصلون إليه.
النفق المسدود يواجه أيضًا المفاوضات الفلسطينية- الصهيونية، وهي أنفاقٌ تهدَّمت أكثر من مرة ثم أعيد حفرها بقدرة قادر، ونعيش الآن صخب الوصول إلى نهاية من نهايات المفاوضات الفلسطينية- الصهيونية عبر وثيقة أو صفقة إيهود أولمرت التي أُعلن عنها قبل أيام، والتي بادر الفلسطينيون إلى رفضها، مع أنها ليست وثيقة جديدة؛ إذ يعرف الجميع قصتها منذ أسابيع.
إن وثيقة أولمرت هذه تشبه تمامًا مشروع إيهود باراك للحل الدائم، والذي عرضه على الرئيس الراحل ياسر عرفات في قمة كامب ديفيد 2000م، وقد رفض عرفات صفقة إيهود باراك وانتهت المفاوضات، وها هم قادة السلطة الفلسطينية يعلنون رفضهم صفقة أولمرت ولكن المفاوضات رغم ذلك لا تنتهي.
لقد عرضت الصفقة قبل أشهر على الرئيس محمود عباس من قِبل إيهود أولمرت ورفضها، وعرضت على المفاوض الماراثوني (50 جلسة أو تزيد) أحمد قريع من قِبل وزيرة الخارجية تسيبي ليفني ورفضها، وها هو أولمرت يجدد عرضها علنًا وعبر الصحافة الصهيونية ويتجدَّد الرفض الفلسطيني لها، وعبر الصحافة أيضًا.
تقوم صفقة أولمرت على نفس الأسس والقواعد التي تقوم عليها صفقة إيهود باراك من قبل: الاستيلاء على القدس، والاستيلاء على ما يزيد عن 40% من أراضي الضفة الغربية، ورفض البحث في قضية عودة اللاجئين، والسيطرة على المياه الجوفية وعلى الأجواء والمياه الإقليمية والمعابر، والاستيلاء على أراضي غور الأردن، من أجل المطالبة بنصف مياه نهر الأردن، وبحجة أن غور الأردن هو حدود الكيان الصهيوني الأمنية.
وتعلن خطة أولمرت رسميًّا أنها تقوم على قاعدة جدار الفصل العنصري الذي تم بناؤه، والذي أدانته محكمة العدل الدولية ودعت إلى هدمه، ثم تستغفل الجميع في النهاية وتقول إن كل ما تريد ضمه هو 7% فقط من أراضي الضفة الغربية.
وتحتوي هذه النسبة "البسيطة" على كل المستوطنات الكبيرة المحيطة بمدينة القدس، والتي تضم 80% من المستوطنين، وتضم كذلك المستوطنات التي بُنيت قُرب نابلس وفي محيط مدينة بيت لحم، وهي مستوطنات تمنع التواصل الجغرافي للأرض الفلسطينية المتبقية، ويمنُّ علينا أولمرت بسبب ذلك بالاستعداد لبناء طرق وأنفاق تصل أجزاء الدولة الفلسطينية المبعثرة، والتي يمكن أن تسمى "دولة المواصلات".
ولكن لماذا يعرض أولمرت خطته الآن؟
لقد جرى قبل فترة وجيزة اجتماع صهيوني- فلسطيني بزعامة كونداليزا رايس في واشنطن، وأعلنت رايس في حينه أنها تريد الوصول إلى "اتفاق رف" يسجل ولا ينفذ، ومن المؤكد أنها طلبت من كل طرف أن يقدِّم إليها تصوره للاتفاق وعن نوع الرف الذي سيوضع عليه، وها هو أولمرت يقدِّم إليها ما طلبته متضمنًا كل ما يطمح الكيان الصهيوني في الاستيلاء عليه، ويبقى أن يقدِّم الفلسطينيون تصورهم.
ويمكن صياغة التصور الفلسطيني بأسطر قليلة تقول: "انسحاب صهيوني كامل، وسيادة فلسطينية كاملة"، وهذا يعني إزالة المستوطنات كلها، وفي مقدمتها مستوطنات القدس، حتى يمكن أن تكون القدس عاصمة الدولة الفلسطينية، وهذا يعني إلغاء النظرية البائسة نظرية تبادل الأراضي؛ إذ لا أحد يستبدل أرضًا هي حقٌّ له بأرض أخرى هي حقٌّ له، وهذا يعني الإقرار بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، العودة إلى وطنهم الأم وليس العودة إلى الدولة الفلسطينية كما يقولون.
إن هذا الموقف الفلسطيني الموجز هو بمثابة حفر نفق نضالي في اتجاه التسوية السياسية، فهل هناك مفاوض فلسطيني يجرؤ على حفر النفق إلى هذا الهدف؟!
--------