كلما جاء ربيع الأول تذكر المسلمون حدثاً من أعظم أحداث التاريخ، ذلكم هو ولادة خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، الذي كانت ولادته إيذاناً بانتصار الحق واندحار الباطل، ومنطلقاً لولادة البشرية من جديد، البشرية التي تمتلك المقومات التي تليق بها، وتميّزها من سائر المخلوقات، وتجعلها متحررة من العبودية لشتى أنواع الأصنام والجبت والطاغوت، تتلقى عن الله تعالى، عبر رسوله الأكرم صلى الله عليه وسلم، في شؤون العقيدة والشعائر والشرائع والأخلاق... ما يجعلها في المقام الذي يليق بالجنس الذي كرّمه الله تعالى (ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر، وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً( سورة الإسراء: 70.
في ذكرى المولد لا يكفي أن نقف عند الرسوم والأشكال، عند نصب زينة، وتوزيع حلوى، وسماع نشيد، وإلقاء خطبة... لابد أن نحس أننا أتباع منقذ البشرية الذي نحتفل بمولده، نُحبّه ونجلّه، ونتأسّى به في أموره كلها في صدقه وأمانته، وفي خشوعه وقنوته، وفي تواضعه وسماحته، وفي دعوته وسياسته، وفي سلمه وحربه، وفي طعامه ولباسه، وفي معاملته لأزواجه وأصحابه وجيرانه، وفي حلمه على السفهاء، ورحمته بالصغار، وشدّته على الأعداء... )لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيراً(. سورة الأحزاب: 21.
وإنه ما من مكرمة وفضيلة وكمال بشري إلا هو متمثّل في شخص النبي صلى الله عليه وسلم أعظم ما يمكن أن يتمثل. فهو صلى الله عليه وسلم الصابر المحتسب، والشجاع المقدام، والكريم السخي، والرؤوف الرحيم، والوفي الودود، والمعلم الحكيم، والمربي الباني...
ولقد وصفه ربه سبحانه بأعلى الأوصاف:
(وإنكَ لعلى خلق عظيم) سورة القلم: 4.
(لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتّم، حريصٌ عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم( سورة التوبة: 128.
ووصفه مع أصحابه الغر الميامين فقال:
(محمد رسول الله، والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم، تراهم ركّعاً سجّداً، يبتغون فضلاً من الله ورضواناً. سيماهم في وجوههم من أثر السجود) سورة الفتح: 29.
فهل تأسينا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟! وهل نجعل من هذه الذكرى محطةً نراجع فيها سلوكنا ومواقفنا وأخلاقنا وأواصرنا... في ضوء هديه صلى الله عليه وسلم؟!.
إن رسالة هذا النبي الكريم لتخاطب المسلمين، قادةً وشعوباً، وتذكّرهم بالأصول التي ربى عليها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، وأسس عليها دولته، وتدعوهم إلى الاقتداء بها وتلمّس آثارها، وتلحُّ عليهم أن يتطهروا مما علق بهم من قيم زائفة، ومبادئ باطلة، وشعارات خلّبيّة... وأن يستشعروا مسؤوليتهم تجاه أنفسهم، وتجاه شعوبهم، وتدعوهم أن يحكّموا هدي النبي صلى الله عليه وسلم في شؤون حياتهم كلها، وتذكّرهم أنه لم يكن لهم، ولن يكون لهم، سعادة واطمئنان وشرف وسؤدد إلا في ظل الشريعة التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: (لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم. أفلا تعقلون) سورة الأنبياء: 10، ففي هذا الكتاب، في اتّباعه والاحتكام إليه، يكون لكم ذِكرٌ في العالمين، وشأن في المجتمع البشري، وبدونه ستكونون في ذيل القافلة، ولسوف تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها... وحالكم يوم عشتم في ضياء هذا الدين، ثم حالكم يوم ابتعدتم عنه، خير شاهد.
إن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وما نشأ عنها من نزول الشريعة التي تُسعد البشرية، وتزيل عنها أسقامها... هي من أعظم النعم التي يمنّ الله عز وجل بها على الناس، ويؤاخذهم على نسيانها واتخاذها وراءهم ظهرياً:
(واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخواناً...) سورة آل عمران: 103.
(ألم تر إلى الذين بدّلوا نعمة الله كفراً، وأحلّوا قومهم دار البوار. جهنم يصلونها وبئس القرار) سورة إبراهيم: 28.
لقد كان صلى الله عليه وسلم أعظم الناس، وأكرم الناس، وأجود الناس، وأرحم الناس، وأشجع الناس، وأصدق الناس... وكان دينه أعظم دين، وأقوم دين، وأخلد دين... وكان الكتاب الذي جاء به أعظم كتاب، وأهدى كتاب، وأشمل كتاب، وأسعد كتاب.
ألا فلنستشعر عظمة النبي صلى الله عليه وسلم، وجميل صفاته، وجلال الشرع الذي جاء به، ولنرفع رؤوسنا فخراً بهذا النبي وهذا الدين، ولنعاهد ربنا سبحانه أن نكون من عباده المتقين، وأن نقتدي بنبيه الأمين صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
ولنقل كما قال الشاعر:

ومما زادني شرفاً وتيهاً
وكِدْتُ بأخمصي أطأُ الثريّا
دخولي تحت قولك: "يا عبادي"
وأن صيّرتَ أحمدَ لي نبيا

م.م.إ.س