تصدع الإمبراطورية الأمريكية.. في وداع بوش الابن | ||
| ||
نبيل شبيب | ||
بينما تناول بعض المتخصصين في التاريخ والعلوم السياسية في أوروبا، الموضوع نفسه من زاوية تحديد الخصائص الأساسية للإمبراطوريات عبر التاريخ القديم، للبحث عما يوجد منها في واقع الدولة الأمريكية أو فيما أراد لها صانع القرار الأمريكي أن تكون. معالم الإمبراطورية بشيء من التبسيط يمكن الاكتفاء بالتركيز على ثلاثة عناصر رئيسية مستخلصة من المقارنات بين واقع الدولة الأمريكية و"الدولة الإمبراطورية" بمفهومها التاريخي، وهي: 1- الجمع بين: (أ) صلابة الحدود الجغرافية للدولة الأم إذا صح التعبير، أو "المركز" الذي اتخذ في العصر الحديث صيغة الأرض الواقعة داخل حدود سياسية معترف بها لدولة قائمة.. وكلمةُ صلابة هنا تعني استحالة المساس بتلك الحدود.. و(ب) تمييع الحدود الجغرافية للدول الأخرى، فالدولة الأم تبيح لنفسها أن تتصرَّف تجاه الدول الأخرى بما لا ينطوي على معنى المساواة في السيادة أو الاحترام المتبادل للحدود، ولا يمكن أن تبيح تصرفا معاكسا من جانب تلك الدول تجاهها. وعند المقارنة مع إمبراطوريات الأمس يتردَّد هنا أيضا ذكر ما تسمِّيه واشنطن المصالح الأمريكية عالميا، وهو ما شمل ميادين عديدة بدءا بنشر القواعد العسكرية، مرورا بخرق حصانة الآخرين القضائية والقانونية وفرض حصانة الإنسان الأمريكي قضائيا وقانونيا في كل مكان، انتهاء باعتبار المساس بخطوط نقل الطاقة والمواد الخام إلى الأرض الأمريكية خطوطا حمراء باسم تلك المصالح الأمريكية العالمية!. 2- القوَّة العسكرية المتفوقة مع منع ظهور قوَّة عسكرية تهددها، بمعنى الردع عن قابلية استخدامها أمريكيا لتحقيق الأهداف الإمبراطورية الذاتية، وهذا العنصر من أبرز ما تنعقد المقارنات عليه، لاسيما بعد أن انفردت واشنطن بتسجيل رقم قياسي متفوق بما خاضته من حروب عبر 150 عاما مضت، دون انقطاع، إضافة إلى أن عنوان "حظر انتشار أسلحة الدمار الشامل" أصبح موازيا لاحتكارها أمريكيا (مع قوى دولية أخرى) مع تحويل عملية الحظر من مادة اتفاقات سياسية دولية إلى مسوغ للحرب بقرار أمريكي محض. 3- السيطرة على ثروات دول وشعوب أخرى مع استغلالها، لصالح المركز، وهذا ما قام عليه النظام المالي والاقتصادي عالميا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وآنذاك بلغ انفراد واشنطن بالزعامة العالمية مداه، وقد شهدت منافسة في حقبة الحرب الباردة، ولكن ليس في المجال المالي والاقتصادي تحديدا، حتى أصبحت حصيلة القسط الأعظم من مختلف المعاملات والعلاقات بين دول العالم وقواه الاقتصادية والتجارية، تصب في خانة ازدياد القوة الأمريكية اقتصاديا وماليا، بغض النظر عن فوائد جزئية تحققها أطراف أخرى (لاسيما الحلفاء الأوروبيون واليابان) فالمهم في هذه المقارنة هو عنصر الهيمنة. مع هذه العناصر الثلاثة الأبرز من سواها في مقارنات المتخصصين، ينبغي تسجيل ملاحظتين: أولاهما: أن إمبراطوريات التاريخ القديم قامت على أساس صيغ علنية توافقت مع الوعي المعرفي السائد عالميا آنذاك، فكان وجود "إمبراطورية" جزءا من الواقع السياسي الدولي، أما في عصر نشر شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، فكان على الإمبراطورية الأمريكية أن تتجنب هذه التسمية وتتجنب معها المظاهر المباشرة التي تجعل وصفها بالإمبراطورية أمرا مفروغا منه، فتثير الرفض والمقاومة. والملاحظة الثانية: أن الخلل الأكبر وفق المقارنات المعنية قائم في التناقض الشديد بين قيام إمبراطوريات الأمس على إمبراطور، حاكم فرد، تتبعه حاشيته، وتتبعه الدولة الأم، وتخضع له الدول والشعوب الأخرى بالقوة، وبين قيام الولايات المتحدة الأمريكية على نظام انتخابات وحكم رئاسي/ نيابي، وإن كان هذا لا يواري حقيقة وجود مراكز قوى ثابتة لا تكاد تتبدل وإن تصارعت فيما بينها، هي التي تصنع القرار عبر المؤسسات الدستورية وغير الدستورية، من وراء مختلف الحكومات الأمريكية وبمشاركتها. إن الوجود الإمبراطوري الأمريكي وفق ما سبق لم يبدأ بالظهور في عهد بوش الابن، بل وصل خلاله إلى مرحلة جديدة، سقطت فيها سلسلة طويلة من العناوين التي كانت تغطي على تنامي المواصفات الإمبراطورية للدولة الأمريكية منذ النصف الثاني من القرن الميلادي التاسع عشر وعبر القرن العشرين بأكمله. لقد كشف بوش الابن وفريق سلطته الواقع الإمبراطوري للدولة الأمريكية، فكشف معه التناقض الصارخ مع الواقع البشري الحديث المعاصر، وزاد على ذلك باستخدام "اللغة السياسية والوسائل العسكرية" كما هي معروفة عن إمبراطوريات التاريخ القديم، فكان لابد أن يؤدي انكشاف البنيان الإمبراطوري الأمريكي دون "رتوش" إلى تصدُّعه، ليس في حدود ما صنع بوش الابن في ثماني سنوات، بل بما يشمل ما صنعته الجهود المتعاقبة لصانعي القرار الأمريكي عبر أكثر من 150 عاما مضت. مؤشرات التصدع قبل انتخاب رئيس أمريكي يخلف بوش الابن في منصبه بأسابيع معدودة، تجمعت سلسلة المؤشرات على ما صنعه الأخير ببلده وشعبه، وليس على المستوى العالمي فقط، كما أن هذه المؤشرات ليست جديدة بمعنى الكلمة، بل كانت معروفة من قبل، يرقبها كثير من المفكرين والكتاب والسياسيين في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها وفي الغرب عموما بقلق كبير، ويتحدثون عنها، ولكن بدا في شهر سبتمبر عام 2008، أنها تجمَّعت فيما يشبه "المظاهرة الوداعية الصاخبة" لعهد بوش الابن، وهذا بعد زهاء سبع سنوات من إعلانه عن حرب عالمية جديدة لا تستثني أحدا، ولا تقبل الحياد من جانب أحد، ولا يتحدد لها زمان أو مكان، ولا تستثني استخدام أي سلاح فتاك، ولا تلتزم بأي معيار دولي، ولا تتردد عن أي انتهاك وحشي لوجود الإنسان وكرامته وحياته وحقوقه، وجميع ذلك تحت عنوان الحرب ضد الإرهاب، أو ضد "بعض عصابات وخلايا نائمة إرهابية" تخطط وتصنع ما تصنع انطلاقا من مغاور جبلية بأفغانستان!. من هذه المؤشرات ما ارتبط بسلسلة من الأخبار والمواقف والتصريحات، فيمكن رؤيتها على سبيل المثال دون الحصر: 1- لم يسبق أن اجتمع رئيس أمريكي في آخر أيام سلطته مع المرشحين الرئيسيين من الحزبين المتنافسين على منصبه من بعده، ليبحثوا جماعيا عن مخرج من أزمة وصفها صانعها، بوش الابن، بأنها أخطر ما واجه بلاده في تاريخها (القصير، فالدولة الأمريكية دولة حديثة التكوين بمعايير التاريخ البشري الزمنية)، مؤكدا أن الانهيار يهدد الاقتصاد الأمريكي إجمالا وليس القطاع المصرفي فقط. 2- لم يسبق في سنوات الحرب السبع الماضية أن صدر عن أحد من المسئولين الأمريكيين موقف مشابه لموقف وزير الدفاع الأمريكي الآن وهو يعلن العجز عن إرسال مزيد من القوات إلى أفغانستان (إلا في ربيع 2009، أي بعد أن ينتهي عهد رئيسه وعهده). ويظهر مغزى هذا الموقف عند التذكير بصدوره بعد أيام معدودة من إعلان بوش الابن نفسه عن إرسال المزيد من القوات قبل نهاية العام (أثناء إعلانه عن سحب بعض القوات من العراق)، وكذلك بصدوره متزامنا مع إعلان جهات رسمية غربية أخرى، كالمعارضة السياسية الفرنسية، أن طالبان تسيطر مجددا على أكثر من نصف الأراضي الأفغانية. 3- لم يسبق أن واجهت الولايات المتحدة الأمريكية تحديا مباشرا من دول "صغيرة" كما واجهت في الأسابيع الأخيرة بطرد سفيرها من بلد بحجم بوليفيا، وطرد الآخر من فنزويلا لمجرد التضامن الاستعراضي مع بوليفيا. 4- لم يسبق -منذ حرب فيتنام على الأقل- أن تجدَّدت المظاهرات الغربية بمطالب الشعوب تجاه حكوماتها أن تنسحب من مستنقع القتال الأطلسي في أفغانستان، كما جرى في فرنسا وألمانيا الآن، وحكومتاهما أكثر حماسة من سواهما لإنقاذ الأطلسي من "المطب" الأمريكي. 5- ولم يسبق أن وقف وزير مالية في دولة حليفة مرتبطة ارتباطا غربيا وثيقا بالدولة الأمريكية، كما صنع وزير المالية الألماني "شتاينبروك"، ليقول في بيان حكومي رسمي وليس في تصريح عابر، إن الولايات المتحدة الأمريكية ستخسر تدريجيا مكانتها كدولة عظمى على الصعيد المالي، وإن الدولار الأمريكي سيفقد مكانته يوما بعد يوم أكثر مما مضى، وإن الحكومة الأمريكية ارتكبت أخطاء فاحشة في سياساتها الاقتصادية والمالية. 6- هذا علاوة على تحديات هادئة ولكن مستمرة ومتصاعدة من جانب بكين اقتصاديا، ومن جانب موسكو أمنيا وسياسيا، ومن جانب دول "مارقة" كإيران وكوريا الشمالية. لقد انتهى العصر الأمريكي قبل أن يبدأ فعلا ما أسماه بوش وأعوانه قبل سبع سنوات فقط بالقرن الأمريكي الجديد. وكان وزير المالية الألماني بالغ الدقة في صياغة عباراته الآنفة الذكر، فلم يقل "انهارت الولايات المتحدة الأمريكية ماليا" بل ذكر بوضوح أنَّها ستفقد سيطرتها المالية العالمية.. تدريجيا، وهو ما يعني أنها ستبقى قوة مالية قائمة، ولكن لن تستطيع بعد اليوم "امتصاص" ثروات الآخرين لصالح اقتصادها ورفاهية المعيشة فيها، ثم لتوظيف ذلك لمزيد من السيطرة، وهذا بالذات ما يعنيه تصدّع أحد الأعمدة الثلاثة لوجود الإمبراطورية الأمريكية عبر عشرات السنين الماضية، وهو تصدع علني لا يخفى على أحد. ومن المؤكد أن التصدع المالي مرتبط ارتباطا وثيقا بالتصدع العسكري، المشابه له من حيث اكتماله تدريجيا في المرحلة المقبلة، ووصوله في هذه الأثناء إلى مرحلة عدم القدرة على فرض الإرادة الأمريكية على الآخرين تحت طائلة التهديد باستخدام القوة أو عبر استخدامها بالفعل. وإذا كان مثال مسألة إيران وملفها النووي أظهر للعيان من سواه، فمغزاه الأعمق أنه مرافق لأمثلة عديدة أخرى، بدءا بالعجز عن التعامل مع التحرك الروسي الجديد في القوقاز، انتهاء بالعجز عن إرسال مزيد من القوات إلى أفغانستان، رغم الحاجة الماسة إليها بالمنظور الأمريكي والأطلسي. ولم يسبق أن استطاعت إمبراطورية عبر التاريخ أن تمنع انهيارها بعد تصدع أكثر من مرتكز من المرتكزات الثلاثة المذكورة للوجود الإمبراطوري. وتتفاوت الفترة الزمنية لعملية الانهيار من حالة إلى أخرى، ولكن لن تستغرق في الحالة الأمريكية "قرنا" أو أكثر، كما كان مع الإمبراطورية الرومانية مثلا. ومن الجدير بالذكر التأكيد على أن الانهيار الإمبراطوري الأمريكي بدأ قبل عهد بوش الابن، من خلال تحول الاقتصاد الأمريكي كلية إلى اقتصاد يعتمد على الثروات خارج الحدود الأمريكية، بدءا باعتماد الدولار في الاحتياطيات النقدية، انتهاء بنضوب مصادر الطاقة الأمريكية أسرع من نضوبها خارج الحدود الأمريكية. ويوجد من الباحثين الغربيين من يتكهن بأنَّ سلسلة الحروب الأمريكية في عهد بوش الابن، كانت من صنع مراكز صناعة القرار الأمريكي بهدف استباق التصدع الاقتصادي والمالي، ومحاولة فرض السيطرة المباشرة عسكريا على مصادر الطاقة وطرق إمداداتها ما بين مياه الخليج وحوض قزوين، للحيلولة دون ازدياد قوة المنافسين الدوليين في أوروبا وآسيا، وهو ما وجد طريقه بالفعل إلى النصوص التنظيرية لفكر المحافظين الجدد في فترة مبكرة. نبوءة بن لادن بمنظور إسلامي هل يمكن على ضوء ما سبق الأخذ بأقوال بعض من يتابع ترنّح العملاق الأمريكي، فيرى فيه تحقيق نبوءة بن لادن، الموصوف بالعدو رقم واحد في عالم بوش الابن وعصبته العسكرية؟. بغض النظر عن حقيقة ملابسات تفجيرات نيويورك وواشنطن عام 2001، كان أنصار بن لادن يدافعون عن تبنيها بأن "التخطيط الاستراتيجي" لزعيمهم قام على السعي لإخراج الولايات المتحدة الأمريكية بقواتها العسكرية من أرضها إلى ساحة القتال في البلدان الإسلامية مباشرة، فهناك يمكن إلحاق الهزيمة بها والقضاء على هيمنتها.. تدريجيا. مع التغاضي عن حقيقة أن القوات الأمريكية لم تبق وراء الحدود الأمريكية قط منذ قرن ونصف القرن، يمكن القول إن هذه الصورة تبدو للوهلة الأولى وكأنها تحققت فعلا عند التأمل في مسلسل وقائع التحرك الأمريكي خلال سبع سنوات مضت، بأسلوب "المتجبرين في الأرض" عسكريا، ثم مشاهد ما لحق بهذا التجبر من ضربات المقاومة بإمكاناتها المحدودة. في هذه الرؤية عدد من العناصر المرئية بالفعل، منها ضربات المقاومة وتناميها، واستنزاف القدرات المالية الأمريكية عسكريا رغم ضخامتها، ومفعول تراكم الهزائم المحلية بتوسيع ساحة الحرب ما بين أفغانستان والصومال إذ ساهم في ازدياد الجرأة العلنية في مواقع كثيرة من العالم على تحدي أخطبوط الهيمنة الأمريكية. ولكن بغض النظر عن حجم الصواب وحجم الخطأ في الرؤية المذكورة، لا بد من التساؤل من منطلق إسلامي لا يمكن تغييب البعد الحضاري فيه، الشامل للأسرة البشرية: ما الذي سيأتي بعد الانهيار الأمريكي؟ أليس البديل المتوقع هو ظهور أقطاب متعددة مهيمنة، متصارعة ومتحالفة، ولكن لا تختلف حصيلة سياساتها على الصعيد البشري اختلافا جوهريا عن حصيلة ما كان عبر مائة وخمسين عاما مضت على مسيرة الهيمنة الأمريكية عالميا؟ هل يمكن لنا اعتمادا على سنن التغيير التاريخية أن نتصوَّر ميلاد الحضارة الإسلامية من جديد في اللحظة التاريخية المعاصرة، والمرافقة لاهتراء الهيمنة الأمريكية وتصدع بنيانها الإمبراطوري؟. قد نرصد بعض الإرهاصات لميلاد حضاري إسلامي جديد، وقد نرصد بعض بذور التغيير فيما يتوجه إليه جيل المستقبل، وقد نرصد بعض الظروف العالمية المواتية لذلك، ولكن ما لا نرصده حتى الآن، هو تحول التصور الإسلامي إلى مشروع حضاري حي، متكامل متفاعل مع الواقع البشري، ليس على صعيد الطرح المتكرر للفكرة والنظرية والفرضية، بل على صعيد الآليات العملية لعولمة الفكرة الإسلامية دعوة راشدة في الحياة البشرية، ولصياغة النظرية الإسلامية في حلول عملية لمشاكل وقضايا كبرى في واقع العالم المعاصر، ولتحويل أسلوب التعامل مع الفرضيات المتكرر طرحها باستمرار، من كلام إلى إنجاز، يبلورها، ويكمل نواقصها، ويصحح أخطاءها، ويبين ميزاتها العملية المشهودة بصورة مباشرة. [size=16]إن |