"صناديق الثروة".. والدور السياسي لنفط المسلمين | ||
محمد جمال عرفة | ||
هناك في الغرب في مراكز الأبحاث التابعة لحكومات ومنظمات عالمية، يطرحون هذه التساؤلات حول "الاستخدام السياسي" المحتمل لسلاح النفط العربي أو ما نفضل أن نسميه "نفط المسلمين"، ويقولون إن غالبية "صناديق الثروة السيادية" العربية التي تسهم في مشاريع استثمارية غربية حيوية مثل صناعات الطائرات والطاقة النووية والبنية التحتية وغيرها لا تزال "غير رشيدة"، أو على الأقل تتحرك بمنطق استثماري عملي لا سياسي، ويتساءلون: ماذا لو استخدمت عوائد النفط وصناديقها الاستثمارية السيادية هذه كسلاح سياسي أو على الأقل التلويح بها؟. ففي وقت واحد تقريبا صدر تقريران إستراتيجيان أمريكيان في يونيو 2008 يحذران من تأثير رأس المال العربي أو ما يسمي "صناديق الأجيال" أو "صناديق الثروة السيادية" Sovereign Wealth Funds التي يسيطر على أغلبها رأس المال الخليجي الناتج عن النفط، على الاقتصاد الأمريكي والغربي مستقبلا، ويحذران من تحول دفة السياسة في العالم مستقبلا لخدمة مصالح عربية بفعل هذا التأثير الاقتصادي لو رغبت هذه الدول النفطية. التقرير الأول أعده ريتشارد هاس، مسئول التخطيط السابق بوزارة الخارجية الأمريكية وصاحب مشروع نشر الديمقراطية بالقوة في العالم العربي والإسلامي، تحت عنوان "عالم بلا أقطاب" The Age Of Nonpolarity، ونشر في عدد مايو/يونيو 2008 من مجلة الشئون الخارجيةForeign Affairs، وركز فيه هاس على مصادر الثروة السيادية لدى الدول الخليجية، وتخوف الكثيرين من تزايد سطوتها وممتلكاتها بما يمكنها من التحكم في النظام المالي الأمريكي واستخدامها كأدوات للضغط السياسي في المستقبل. والتقرير الثاني نشره دانييل دريزنر، الأستاذ المساعد للسياسات العالمية بكلية فليتشر Fletcher School في مجلة The American عدد مايو/يونيو 2008 تحت اسم "السيادات قادمة "The Sovereigns Are Coming" وركز فيه على أن عصر سيطرة هذه الصناديق السيادية العربية قادم بسبب تضخم أموال هذه الصناديق العربية السيادية (أي التي تمتلكها حكومات). وبالتوازي مع هذا، نشر تقرير اقتصادي لمكتب "الشال" للاستشارات الاقتصادية في الكويت نهاية يونيو 2008 كشف عن أن دول مجلس التعاون الخليجي الغنية بالنفط ستحقق خلال عامي 2008 و2009 ما يقارب الـ1300 مليار دولار (1.3 تريليون) من العائدات النفطية منها 700 مليار عائدات السعودية النفطية فقط في 2008 و2009 مقارنة بـ 194 مليار دولار في العام 2007. أيضا نشرت تقارير أخرى حول صناديق الأجيال أو الثروة الخليجية التي تستثمر في الخارج في أوروبا وأمريكا، كشفت عن تعاظم واردات هذه الصناديق لحد أن أصول صندوقين تديرهما هيئة الاستثمار الكويتية زادت بنسبة 14.4% لتصل إلى 70.21 مليار دينار (264.4 مليار دولار) حتى 31 مارس الماضي، وهي صناديق مهمة لأنها تتحسب لوقت ينفد فيه النفط وتسعى لتنويع الاستثمارات الخليجية بدلا من النفط فقط واستغلال عوائد النفط بصورة مفيدة. دول الخليج قوة عالمية! ماذا تعني كل هذه المعلومات والإحصاءات؟. تعني –كما يقول استشاري كبير في شئون الشرق الأوسط المالية- أن دول الخليج تتحول إلى قوة اقتصادية عالمية، وأن الخليجيين نجحوا في تحويل دولارات النفط إلى شركات عالمية رائدة تغزو القارات الخمس باستثمارات ضخمة. ولكن المشكلة، كما يكشف هذا الاستشاري –وهو "جان ماري بين" العضو المنتدب لشركة باين أند كومباني الشرق الأوسط– هي أن اقتصاديات دول الخليج العربية التي يغذيها النفط والتي باتت قوة عالمية يعتد بها من خلال "صناديق الثروة السيادية الخليجية" والتي تملك تحت تصرفها تريليونات الدولارات، "تتبنى نهجا عمليا وليس سياسيا في استثماراتها". وترجمة ما قاله هذا الخبير يتلخص في أن هذه الصناديق تتحرك بمنطق اقتصادي بحت دون توجه سياسي، فهي تتدخل مثلا لإنقاذ بنوك وشركات عالمية من الإفلاس أو تمول أنشطتها، بلا هدف سوى الربح، في حين أن غالبية صناديق الثروة السيادية الأجنبية الأخرى تضع لتحركاتها الاقتصادية ثمنا سياسيا أو على الأقل تحدد لنفسها عائدا من النفوذ تستخدمه للضغط على حكومات الغرب لنصرة قضايا أمتها، وهو أمر العرب والمسلمين أولى به!. وكمثال، خلال أزمة الائتمان في العام الماضي وكذلك خلال أزمة الإفلاس الأمريكية الأخيرة، ساعدت عدة صناديق خليجية في زيادة رأسمال بنوك غربية بدون هدف محدد، رغم أن صناديق الثروة السيادية العربية (1.5 تريليون دولار حاليا) تتحول تدريجيا لقوة مالية هائلة بالفعل، ويتوقع ارتفاع أصولها إلى ثلاثة أو أربعة أمثال في غضون خمس إلى عشر سنوات إذا ظلت أسعار النفط عند المستويات الحالية، ومن ثم يمكن تخيل النفوذ المالي والاقتصادي والسياسي للصناديق العربية (لو أراد أصحابها) الذي يمكن أن تمارسه تلك الصناديق دوليا. الثعلب يحذر هذه الحقائق دفعت الثعلب الأمريكي هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأسبق، لكتابة مقال في صحيفة إنترناشيونال هيرالد تريبيون يوم 19 سبتمبر الجاري 2008 -بالتعاون مع البروفيسور مارتن فيلدشتاين، أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد وكبير المستشارين الاقتصاديين للرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان- يحذر فيه من تكدس مليارات النفط في الخليج ومن صناديق الثروة الخليجية ويدعو الغرب لتقليص قدرة أوبك حتى لا يتحول التأثير من اقتصادي إلى سياسي. فارتفاع أسعار النفط، وفق كيسنجر، أدى إلى نشوء أكبر ظاهرة بالتاريخ لانتقال الثروات من منطقة بالعالم إلى أخرى حتى أن دول أوبك ستحصل خلال العام الحالي 2008 على ما قد يصل إلى تريليون دولار (ألف مليار)، الأمر الذي قد تكون له آثار سياسية مستقبلية. ودعا الثعلب لتطوير إستراتيجية سياسية لمواجهة صناديق الثروة العربية الناجمة من النفط وقيام أوبك باستعمال أرصدتها المالية الكبيرة للابتزاز السياسي والاقتصادي، محذرا من أن التراخي سيؤدي إلى خفض مستويات الحياة بالدول الغنية المستوردة وإصابة موازين المدفوعات باللاتوازن، هذا فضلا عن الضغوط التضخمية. وحتى مع هبوط سعر البرميل إلى حوالي 100 دولار، فان دول الشرق الأوسط –وفق المقال- ستحصل هذا العام على 800 مليار دولار عائدات نفطية سيذهب أكثرها إلى دول قليلة السكان مثل الإمارات التي تراكم لديها ما مقداره تريليون دولار من وفورات العائدات النفطية السابقة، وتراكم هذه الثروات في دول ضعيفة يجعلها عرضة لأطماع جيرانها الأقوياء، كما أنه سيعطيها قدرة غير متناسبة للتأثير على الشئون الدولية وذلك من خلال طريقين: أولهما، احتمال تسرب بعض هذه الثروة إلى مجموعات راديكالية إسلامية مثل حزب الله من خلال التبرعات الخاصة والعامة، وثانيهما، قيام هذه الدول باستثمار فوائضها المالية عبر (صناديق الثروة السيادية) في الدول الصناعية المتطورة. وهنا يلاحظ الكاتبان أنه بفضل تزايد الثروات السيادية أخذت تنتقل هذه الثروات من الاستثمار السلبي بالسندات الحكومية الأمريكية والأوربية إلى الأسهم بل وإلى شراء شركات بالكامل، ما يعني تزايد تأثير هذه الدول على الاقتصاديات الغربية. ولمواجهة التداعيات المستقبلية لمثل هذه الأوضاع، دعا كاتبا المقال الدول الصناعية الغربية المستوردة للنفط إلى تنسيق مواقفها وحشد مواردها لتشكيل توازن اقتصادي وسياسي عالمي يخدم مصالحها ويغير اتجاهات العرض والطلب على المدى الطويل من أجل إنهاء ابتزاز الدول الضعيفة (المنتجة للنفط) للدول القوية. سلاح الاستثمارات النفطية والحقيقة أنه مع تصاعد أسعار النفط لأرقام فلكية وتضاعف الفوائض المالية النفطية العربية والإسلامية، تصاعد الحديث بين سياسيين عرب عن هذا السلاح الإسلامي والعربي الهام، وسر عدم استخدمه استثماريا وماليا (لا بمعني حظر النفط). البعض قال إن الدول العربية والإسلامية ربما تجهل أهميته أو لا تتنبه له، ولكن التنبيه قد جاء من الغرب الذي يطرق الأجراس للتحذير من هذا السلاح العربي المالي القادم من النفط ومخاطر انعكاسه على ميزان السياسة الدولية. فهذه الفوائض أو العوائد النفطية تكفي لو جرى استثمارها بشكل جيد لتحقيق طفرة في القوة الاقتصادية العربية، ومن ثم القوة السياسية للعرب والمسلمين، لكبر حجمه مقارنة بسوق الاستثمار العربي الضعيف. وتكمن أهمية صناديق الثروة التي تمتلكها الحكومات العربية في أنها تسيطر على أصول إستراتيجية أمريكية في مؤسسات مالية كبرى مثل "بلاك ستون" و"يو بى إس" و"ميريل لينش و"مورجان ستانلى" و"سيتى"، ما يجعلها تتحكم في الاقتصاد الأمريكي وربما التأثير على السياسة الأمريكية لاحقا لو أردت الدول العربية مالكة هذه الصناديق استعمال هذا السلاح. ونتذكر هنا أن محاولات أمريكية سابقة جرت للتصدي لهذا التغلغل العربي المالي في عصب المصالح الإستراتيجية الأمريكية، ووصلت لحد تدخل الكونجرس الأمريكي وأجهزة المخابرات. ومثال ذلك ما حدث في صفقة شراء شركة موانئ دبي الحكومية لنظيرتها البريطانية 'P& O' المتخصصة في إدارة الموانئ بمبلغ 7 مليارات دولار، والتي تدير ستة موانئ أمريكية، حيث كان ذلك بمثابة ضوء أحمر للحد الفاصل بين المال العربي والمصالح الإستراتيجية الحيوية الأمريكية، وانتهى الأمر بسلطات الموانئ في نيويورك ونيوجرسي اللجوء إلى القضاء لمنع تولي الشركة الإماراتية إدارة ميناء الحاويات هناك بعد اتهامات مجنونة للعرب بالإرهاب. هل من منظور عربي جديد؟ ولأن النفط هو أغلى الموارد التي يعوم عليها باطن أراضي العرب والمسلمين، ولأنه سيكون محور صراعات القرن الحالي، وخاصة مع ارتفاع أسعاره لأرقام فلكية وتضاعفها ست مرات في ربع قرن، فإن هذا يفتح الباب أمام الدول العربية النفطية لتوحيد مواقفها والتفكير في كيفية الاستفادة من هذا الصراع العالمي على نفطها، وكيف تستفيد من ذلك بدلا أن تصبح مجرد بقرة حلوب يستنزفها الغرب ويسعى للسيطرة على نفطها أو استنزاف ثرواتها بصفقات سلاح لا تستخدم أو مفاعلات نووية يتحكم في إدارتها الغربيون!. بعبارة أخرى بات السؤال هو: كيف يمكن استخدام هذا النفط كسلاح في المستقبل، ليس فقط بمعنى "الحظر" أو "تخفيض الإنتاج" لإرباك الخطط الصناعية الغربية ورفع الأسعار وكبح جماح الانحياز الغربي لإسرائيل كما حدث في عام 1973، ولكن بمعان أخرى جديدة تتضمن الاستغلال الحسن لعوائد وفوائض النفط الضخمة الناتجة عن زيادة الأسعار، وتنمية الدول العربية لتصبح قوى منتجة كبيرة، ووضعها في موقع الندية للغرب في صراعات المستقبل والسياسة الدولية، فضلا عن استغلال عوائد زكاة هذا النفط في التغلب على ظاهرة الفقر في العديد من الدول الإسلامية. والأهم من كل ذلك، كيف نستفيد من هذا النفط وموارده المالية واستثماراته في نصرة قضايا العرب والمسلمين في العالم، والضغط على دول مثل أمريكا بسلاح الاستثمارات النفطية كي توازن موقفها من العرب وإسرائيل بدلا من الانحياز الأعمى الحالي للدولة العبرية، وكيف يمكن أن نبتكر ونبحث عن وسائل أو طرق وأفكار متطورة لاستخدام النفط كسلاح وقت السلم والحرب. هل يمكن مثلا استخدام سلاح تصنيع النفط بدلا من بيعه خام بما يعود على العرب والمسلمين بأرباح أكبر، أو نستغل الصراع الأمريكي الصيني في تحديد لمن يبيع العرب نفطهم بصورة أكبر أو لمن تتدخل صناديق الاستثمارات العربية لنصرة شركاته، وبحيث يكون الطرف الرابح هو من يخدم القضايا العربية والإسلامية أكثر؟. ويرجع تاريخ نشأة صناديق الثروة السيادية إلى عام 1953 عندما أنشئ أول صندوق كويتي أطلق عليه محليا اسم "صناديق الأجيال" لاستثمار ثروات الكويت في مشاريع استثمارية عالمية، وهي صناديق تقوم بإدارة واستثمار ثروات تعود ملكية بعضها إلى عائلات ثرية، وبعضها الآخر تملكه حكومات. ومع أن الصين تمتلك أكبر هذه الصناديق في العالم بأصول تقدر بنحو 1.2 تريليون دولار أمريكي –وفق تقديرات عام 2007- وتليها روسيا، فإن جهاز أبو ظبي للاستثمار يعد واحدا من أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم؛ حيث قدرت إجمالي أصوله في نهاية عام 2007 بحوالي 875 مليار دولار أمريكي. وما يقلق أمريكا والدول الصناعية الغربية –وفق دراسة حديثة لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية صدرت في أول يونيو 2008– هو أن صناديق الثروة السيادية بدأت تدخل في صفقات ضخمة لحصص كبيرة نسبيا في شركات أمريكية وأوروبية عملاقة مثل (سيتي جروب)، و(مورجان ستانلي)، و(بير ستيرن)، و(ميريل لينش)، و(يو بي إس)، وغيرها من الشركات. وقد أثار هذا مخاوف أمريكية من هيمنة تلك الصناديق السيادية على حصص كبيرة في شركات عملاقة أو دخولها إلى قطاعات البنية التحتية الإستراتيجية مثل الموانئ والمطارات وسكك الحديد، أو دخولها إلى صناعات إستراتيجية مثل التكنولوجيا والاتصالات والطيران والطاقة، وخاصة الطاقة النووية، والصناعات الحربية وغيرها، لاسيما أن أغلب تلك الصناديق تملكها وتديرها حكومات. وإذا ما حدث ذلك فسوف يكون لتلك الصناديق تأثير كبير في صنع القرار الاقتصادي الأمريكي، وبالتالي سيكون للدول المالكة لتلك الصناديق سلطة التدخل في صناعة القرارات الاقتصادية المهمة في الدول الصناعية، أي التدخل في سيادة الدولة والتأثير في أمنها القومي. وهناك عشرات التقارير والدراسات الأمريكية والأوروبية التي تتحدث عن أهمية وتأثير سلاح الأموال النفطية العربية في صناديق الاستثمار السيادية العربية، وهي ترشدنا لسلاح هام لا يقل عن سلاح النفط المباشر الذي استخدم عام 1973، ربما لم تتنبه له الدول النفطية العربية. وإن كانت أمريكا تنبهت له وبدأت من الآن السعي للتصدي له بل وتغيير بعض التشريعات –بطلب من الكونجرس واللوبي اليهودي- لمعادلة هذا الضغط المالي العربي "لو حدث"، فمن باب أولى أن تشرع الدول العربية والنفطية في وضع أسس وسياسيات إستراتيجية جديدة تمزج بين قوة النفط الاقتصادية وقوته المالية وكيفية استخدام هذا السلاح الجبار في نصرة قضايا العرب والمسلمين. ولنتذكر مثلا أن الصين ودولا آسيوية أخرى أشد طلبا على النفط بفعل النمو المتسارع بها، تحركت من تلقاء نفسها ودون أن تمارس الدول النفطية أي ضغط عليها وفتحت –وفق تقرير بثته وكالة رويترز نوفمبر 2006– مساجد كانت مغلقة، حتى إن الوكالة قالت إن "نفط المسلمين فتح مساجد الصين (الشيوعية) على مصراعيها"!. هذا مجرد دور بسيط لسلاح النفط وأمواله لحماية الأقليات المسلمة التي تعاني القهر، بخلاف لعب دور آخر مطلوب مواز للدور الأمريكي المنحاز لإسرائيل وضد المصالح العربية على غرار التدخل لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي في الأزمة المالية الأخيرة عقب إفلاس "بنك ليمان برازرز"... فهل ينجح العرب والمسلمون في استغلال الارتفاع الحاد في أسعار النفط لصالح قضايا العرب والمسلمين؟! |