حول منهج نقد الحركات الإسلامية
منذ كتبت مقالي الفائت حول تأثير الحركة السلفية في سلوكيات المجتمع المصري، والذي عنونته بـ (الدعوة السلفية... تغيير حقيقي أم مظاهر خادعة؟)، وقد انهالت التعليقات على المقال من غالبية تتعصب للحركة السلفية، وقد اتسمت غالبية تلك الردود بعصبية شديدة وتجاوز في الرد، بالإضافة لما هو أسوأ وهو عدم فهم ما يتحدث عنه المقال من الأساس.
لقد ناقشت في المقال تأثير الحركة السلفية في مصر في واقع السلوك الاجتماعي للمجتمع المصري، وخلصت من خلال الأدلة إلى أنها لم تستطع حتى الآن أن تحقق تغييرًا حقيقيًّا وملموسًا في سلوكيات المجتمع، إلا من تغيير بعض الظواهر في الملبس، والهي الظاهر عمومًا، ولكن الاختيار العملي والواقعي للمواطن المصري المسلم في سلوكياته، وما يهمه من أمور الحياة ما زال بعيدًا عن الخيار السلفي، وعزوت ذلك إلى عدة أسباب ذكرتها في المقال، ولكن من علَّقوا على المقال بعصبية شديدة فهموا أنني أهاجم السلفية كمنهج وكشيوخ، وهذا الفهم نابع من ظاهرة منتشرة بين كثير من المسلمين في عصور التراجع الحضاري، وهي ظاهرة شخصنة الفكر، أي اعتبار أن قبول الفكر هو تكريم للشخص، ورفض الفكر هو احتقار للشخص، كما يعود لظاهرة أخرى، وهي التعصب الشديد للفكر والاتجاه؛ فيظن أتباع ذلك الاتجاه أنهم هم أصحاب الإسلام الصحيح بينما غيرهم على ضلال، رغم أن الكل ينهل من الإسلام، والأصول واحدة، والاختلاف بين التيارات – في عمومه – يدور في الفروع والجزئيات.
كما حفلت الردود باتهاماتٍ لي أنني من أنصار تيار إسلامي معين وأحوال مهاجمة التيارات المخالفة، وهذا الاتهام شائع في أذهان المتعصبين دائمًا.
لذا رأيت ان أكتب هذا المقال لأوضح به ما أراه من صحيح القواعد في تقييم الحركات الإسلامية؛ كي نحاول الخروج من ساحات التجريح إلى ساحات الحوار بالحسنى كما قال الله تعالى \"وجادلهم بالتي هي أحسن\".
قواعد نقد الحركات الإسلامية:
لنقد الحركات الإسلامية – في رأيي – قواعد بعضها مشترك بينها وبين مناهج النقد عمومًا سواءً للأشخاص أو للأفكار، والمذاهب، وبعضها خاص بها بحكم ما تتميز به من تنظيم وجماعية في الأداء، وتأثير في المجتمع، وتدافع فيما بينها وبين الحركات الأخرى، أو الأنظمة في بلادها، ومن أهم ما أراه من قواعد لمنهج نقد الحركات الإسلامية ما يلي:
أولاً: الإخلاص في النقد:
وهذا الأمر عام في نقد كل إنسان أو جهة؛ فلا بد لمن يتصدى لنقد حركةٍ إسلاميةٍ ما أن يتحلى بالإخلاص، وابتغاء وجه الله عز وجل، وأن يكون نقده رغبة في إظهار الحق، وتعميم الاستفادة؛ وكيف لا وقد قال الله تعالى: \"فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا\".
وهذا يعني أيضًا عدم جواز أن يقصد الناقد تشويه حركة ما من أجل نصرة حركة أخرى، فكل حركة اعتمدت القرآن والسنة مرجعًا، وعملت على تطبيق منهج الله، و قدمت التضحيات في سبيل تلك الغاية ينبغي أن نقدرها، ونوالي أفرادها المسلمين الذين قاموا بالتضحية، ويجمعنا بهم سبيل العمل لله عز وجل، ولا يجوز قصد تشويه أعمالهم من أجل أن نُظهر الحركة التي ننتمي إليها بمظهر الأفضل، فكلها مدارس للعمل للإسلام، ويسعنا أن تجمعنا الغاية والثوابت الأساسية، وأن نختلف في الوسائل والفروع ما دام لكلٍّ منَّا دليله الصحيح.
وقد كنا نرى – وما زلنا – من الشباب المتعصب، وبعض الجهَال الذين لا تخلو منهم حركة إسلامية من يبدأ دعوة من يدعوه من الشباب حديثي الالتزام بتشويه كل الحركات الإسلامية الأخرى أمامه حتى يرى المدعو أن تلك الجماعة التي ينتمي إليها داعيه هي الأفضل، وهي وحدها على الحق، وهذا إن جاز أن يحدث من بعض الجهَّال إلا إنه لا يجوز أن يكون ممن يتصدى لنقد الحركات الإسلامية.
كما يعني الإخلاص هنا أن يتجاوز الناقد عن الحساسيات التي بينه وبين من ينتمون لهذا التيار أو ذاك؛ فنحن كثيرًا ما نطالع نقدًا كأنه السُّم الزعاف، بث فيه الناقد حقدًا لا يذوب على حركة ما؛ فإذا بحثنا وراء أسباب ذلك النقد الجائر وجدنا خلافات شخصية جمعت الناقد ببعض الاتجاهات يومًا ما، وآية ذلك النقد المتحامل أنك تجد صاحبه يسئ الظن بكل تصرف للحركة، ولا يحمل تصرفاها على المحمل الحسن.
ثانيًا: فهم المقصود بالنقد، وحسن تطبيقه:
ليس النقد عملية سلبية – كما هو في لا شعور الكثيرين - ؛ فليس المقصود بالنقد إظهار السلبيات والتركيز عليها، وفي ذات الوقت إغفال الإيجابيات والجوانب المضيئة؛ فذلك مفهوم المغرضين وضعاف العقول، كما نرى ذلك من بعض النقاد الذين يبدون وكأنهم يُهمُّون بتمزيق جسد هذه الحركة أو تلك.
إن النقد في حقيقته أن تكشف عن الصالح والطالح من الجوانب في الحركة؛ وذلك من أجل أن تُظهر الصورة الحقيقية للحركة في ميدان العمل الإسلامي، ومن ثَمَّ فإنك تشجع المجتمع على التعاطف معها، أو تنفيره منها، وتلك مسئولية كبيرة أمام الله وأمام المجتمع.
إن بعض النقاد يعطي صورة سيئة للحركة الإسلامية بجميع تياراتها؛ مما يبعد بين الجمهور وبين الحل الإسلامي بالتبعية، ويفقدهم الثقة بكل فصائل الاتجاه الإسلامي.
كما أن التاريخ يُدوَّن، وبعد سنين وعقود ستظهر للنور كتب ودراسات وأعمال فنية تؤرِّخ لعصرنا، ومن أهم جوانبه الحركات الإسلامية، وسوف تعتمد على ما يكتبه أهل ذلك الزمان من نقد؛ لذا لابد أن يفهم الناقد دوره جيدًا؛ كي يؤديه بإتقان.
ثالثًا: تحديد موضوع النقد:
من آفات النقد أن يكون عامًا غير محدد، يحاول فيه الناقد في مقال صغير أو دراسة موجزة أن يحيط بنقد كل جوانب اتجاهٍ ما، وهذا في رأيي ظلم بيَّن للحركة؛ فالدراسات الشاملة هي المجال الصحيح للنقد المتكامل، أم المقالات والدراسات الموجزة؛ فيمكن من خلالها رصد جانب أو اثنين على الأكثر من جوانب نقد الحركة، بل يمكن في هذا المقال تناول مظهر من مظاهر أحد الجوانب، وليس الجانب كله؛ وهذا يحقق للنقد المصداقية الواجبة فيه.
رابعًا: التفرقة بين الشخصيات والأفكار:
إن احترام الشخصيات ينبغي ألا يعطي لأفكارهم قداسة، وهذا مما يجب أن يراعيه الناقد، وهو مما يصعب في مسألة الحركات الإسلامية بالذات؛ وذلك لأن موضوع النقد يتعرض لأفكار علماء وشيوخ ودعاة ومفكرين تعلقت القلوب بحبهم وتقديرهم، ولكن هذا الحب، وذاك التقدير ينبغي ألا يتجاوز دوره إلى إلجام القلم عن قول الحق، وكشف العيوب، بل إن هذا النقد هو من سبل تكريم هؤلاء العلماء والمفكرين؛ فقد روي عن الفاروق عمر رضي الله عنه قوله: رحم الله امرءًا أهدى إليَّ عيوبي.
خامسًا: الجمع بين نقد المنهج، ونقد التطبيق:
كثيرًا ما يُواجَه الناقد باتهامٍ من أبناء الحركة الإسلامية مفاده أنه ينتقد الحركة بناءً على تصرفات بعض فرادها، وأنه ينبغي عليه أن يقرأ الأساس الفكري للحركة، أو منهج الجماعة المدون في أدبيات مؤسسيها ومفكريها، ويقوم بنقد هذا الأساس، ويحدد مكانة الحركة من البقية الجركات، ومن المجتمع بناءً على هذا المنهج.
وهذا الرد في حقيقته غير صحيح – رغم ما يبدو فيه من جاذبية - ؛ وذلك لأن المنهج وإن كان صحيحًا في أساسه الفكري، إلا أنه لا يتمثل في واقع المجتمع والأمة إلا بتصرفات الأفراد، ومؤسسات الجماعة كَكُلٍّ؛ فالجماهير لا تتعامل مع الأفكار المسطورة في الكتب، وغنما تتعامل مع سلوكيات الأفراد الذين يحملون هذه الأفكار؛ فإن كان هؤلاء متمثلين تلك الأفكار، ومحسنين لتطبيقها؛ فهم خير معبِّر عن المنهج، وإن كانوا غير ذلك فما ينفع المجتمع من فكرٍ مسطور، ولكنه غائب عن التطبيق.
إن الناقد لكي يقدم نقدًا صحيحًا منصفًا يجب أن يجمع بين نقد المنهج؛ فيقيمه بميزان الإسلام، وموافقته لظروف المجتمع، ومرونته، وبين تطبيق أفراد ومؤسسات الحركة لهذا المنهج؛ وبذلك يفض الاشتباك بين المنهج النظري، والتطبيق العملي.
وأخيرًا فهذه نقاط قليلة في الموضوع، لا أزعم أنها أحاطت بقواعد منهج النقد الصحيح للحركات الإسلامية، ولكنه إسهام يسير أفتح به الباب للمناقشة، وأسأل الله عز وجل ان يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن يتقبله منِّي؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
إسلام عبد التواب - باحث إسلامي